المحكومات بالحرمان الجنسيّ هل بوسعهنّ إخفاء النقصان؟

في غيابِ الشريك الجنسيّ، بعضُ النساء في العالم العربيّ مُطلّقات، أو أرامل أو بكلِّ بساطة عازبات، يَجدْنَ صُعوبةً في عيشِ حياةٍ جنسيّةٍ مُنفتحةٍ لأنّ ذلك يُعتبَر أمراً غير لائق اجتماعيّاً، وبالتالي يَفرضنَ على أنفسهنّ رقابةً ذاتيّة. هذا الأمر يَسري بسهولةٍ على اللّواتي لا يَجدْن في الحبّ الجسديّ أيّ إكتفاء، مُتأثّراتٍ بتربيةٍ قاسيةٍ تعتبر أنّ الجنس موضوعٌ مُحرّم. لكن بالنسبة إلى أُخريات، يُمثّل هذا الركود إختباراً قاسياً من الحِرمان والإحباط. فما هو الثمنُ الحقيقيّ لهذا الامتناع عن مُمارسة الجنس؟

امتناعٌ اجتماعيّ وديموغرافيّ

إنّ الامتناع عن مُمارسة الجنس أو غياب نشاط جنسيّ مع شريك، بدأ يُشكّل مُصيبةً تمُسّ قسماً كبيراً من النساء المُكرهات على العزوبيّة، ومُجنّبةً بأعجوبةٍ الغالبية العُظمى من الذكور. ففي مُجتمعنا، وتحت تأثير المُعتقدات الدينيّة التي تُحرّم مَلَذات الحياة الجنسيّة الأُنثويّة، اختُزلت العلاقة الجنسيّة منذُ فترةٍ طويلةٍ بعمليّة الإنجاب وبالتالي الزواج؛ أمّا غير المتزوّجين فعليهم التخلّي عنها “بشكلٍ طبيعيّ”.

حسب التقاليد، يَعتبرُ المُجتمع أنَّ العُزوبية في حياة النساء هي فترة ركودٍ جنسيّ. أضف إلى ذلك، إنَّ عدَم وجود شريك ارتفعَ بشكلٍ مُطّردٍ في بلد حيثُ أصبح توفُّر الرجال المُناسبين أكثر نُدرةً. كما أنَّ هناك عاملان إضافيان يُفسّران هذه العُزلة الجنسيّة المُتصاعدة للنساء: فهنَّ أوّلاً لا يتزوجنّ كما في السابق (تأثير المُعدّل الزائد للوفيات عند الرجال، وفارق العُمر عند الزواج واحتمال أقلّ في الزواج من جديد)، وثانياً وبالنظر إلى وضعٍ عائليٍّ مُعيّن، يَبقين أحياناً من دون شريك. وبالإضافة إلى ذلك، إنَّ النساء اللّواتي تَخطّينَ سنّ الأربعين ويَعشنَ من دون زوج، يُصبحن ضحايا لتحقيرٍ اجتماعيّ. في الواقع، إنَّ الرجال يُعطون أهميّةً كبيرةً لشكل شريكتهم الخارجيّ: “كرمزٍ للجمال، لا تزال المرأة تُحكَم على خَصائصها أكثر من الرجال”. فالصِبا والجَمال هما في سوقِ الإغراء رصيدٌ لا يُستغنى عنهُ عند النساء، إلى مرحلةٍ أنَّ وضعهنّ الإجتماعيّ المُميّز لا يُعفيهنّ من الإستلطاف الجنسيّ. وهذا لا يَسري على الرجال أبداً. فالأرامل بشكلٍ أساسيّ هنَّ الأقلّ اعتباراً في الحياة الجنسيّة، يتبعهنَّ العازبات ومن ثمّ المُطلّقات. ففقدانُ الشريك عامّةً يضعُ نهايةً للعلاقاتِ الجنسيّة في حياة النساء. وإستبعادُ الأرامل عن الجنس سَببهُ ليس فقط الإخلاص لذِكرى الزوج الفقيد، وإنَّما نتيجة إنقطاع العلاقة حديثاً وحصول ذلك في فترةٍ مُتأخّرةٍ من حياتهنَّ نسبيّاً، ممَّا يَحدُّ من فرصِ لقاءِ شريكٍ جديد.

استقرار الفراغ العاطفيّ

تقولُ نجاح (36 عاماً): “منذُ إنفصالي عن زوجي، أعيشُ وضعاً لا يُطاق. غير مُطلّقة بعد، ويجبُ عليَّ العيش وراء القضبان وألاَّ أتعاطى مع أحد. لا أريدُ أن أفقد حضانةَ أطفالي بسبب نزوةٍ جنسيّةٍ عابرة. لكنَّ الصوم عن الجنس أمرٌ قاسٍ. إنّه مِحْنَةٌ حقيقية. فأنا لا أفكرُ إلاَّ بهذا الأمر. الأحلام الشهوانيّة المُتتابعة تُراودني كلّ ليلة. أمّا خلال النهار، فالإستيهامات تَقودني إلى الهَوَس. أشعرُ أنَّ بُركاناً يَشتعلُ في داخلي وليس الإستمناء هو المُهدِّىء لحِمَمه. على عكس ذلك، فالإستمناء يُبقيني في لهيبي، مَحرومة ومُحبطة للغاية. وأعرفُ جيداً أنه حتى ولو حصلتُ على الطلاق، فإنَّ زوجي السابق يُراقبني عن كَثب. مع ذلك، أنا لا أجهلُ إطلاقاً أنَّ موجة المُجازفة ستَجرفني لأنَّه بالنسبة إليّ التخلّي عن الحياة الجنسيّة يَعني التخلّي عن الحياة”.

تتقبَّل المُمتنعات عن مُمارسة الجنس هذا الوضع للإحتماء من الإشاعات أو لكي يتصالحنَ مع أنفسهنَّ، لكنّهنّ  يُعانين ليس فقط من حرمانٍ جسدي، بل أيضاً من غياب الآخر والفراغ العاطفيّ الذي يستقرُّ في حياتهنّ.

فبالنسبة إلى العالِم النفسيّ فرويد، لا يُمكن التعايش مع الإمتناع عن مُمارسة الجنس: “إنَّ مَهمّة ضبط الدافع الجنسيّ من خلال عدم إشباعه يتطلَّبُ كلّ جهود الكائن البشريّ. أقليّةٌ هي التي تنجح في فعل ذلك، ولكن بطريقة مُتقطّعة. فالصراع ضدَّ الشهوانية يَستهلكُ كلّ الطاقة المُتوفّرة عند الشخص”.

تدهور الصورة الذاتيَّة

هذه الفكرة أضحَكتْ كاتيا (47 عاماً)، المُمتنعة عن مُمارسة الجنس منذُ خمس سنوات بعد طلاقٍ مؤلم: “ليس الأمر صراعاً بقدر ما هو إنشغال بالٍ مُزعج. فأنا لا أشعرُ أنّني أسيرة نزواتٍ غير مُشبعة، لكنّني أحتضنُ بَقايا ألمٍ مُضنٍ. لديَّ إنطباع بأنَّه يفوتني شيءٌ يُشكِّل جزءاً من حياتي كإمرأة. نعم، أنا أفتقدُ الجنس ولكن بشكلٍ أقلّ. اتّخذتُ قراري لكن ينقصني أمرٌ ما. أنا أعيشُ مع الشعور بالفراغ. ما يؤرقني ليل نهار ليس الحرمان الجنسيّ، بل اليأس من فقدان أملِ لقاء أحدهم في هذه الحياة. في قُرارة نفسي، الأصعب ليس عدم إقامة علاقة جنسيّة، بل الشعور بأنّني لم أعد مَرغوبة ومُدلّلة”.

هكذا يقودُ فقدان الشهيَّة الجنسيّة إلى الفراغ العاطفيّ. فالنقص في الحياة الجنسيّة يُوقظ غالباً النقص في وجود علاقاتٍ شهوانيّة. أضف إلى ذلك، إلى جانب قلّة المُلامسات والحَنان والعَاطفة يأتي فقدان تقدير الذات الذي يتغذّى من رغبة الآخر. فإنْ بقيت النساء أشهرٍ عدّة لا بل سنوات عدّة دون شريكٍ جنسيّ، تَجنَحُ العديدات منهنَّ إلى رؤية تقديرهنَّ لذاتهنَّ يتدهور. ويبدأن بالتساؤل جديّاً عن قدرتهنَّ في الإغواء، وكفايتهنَّ بأن يكنَّ محبوبات.

رغبةٌ محرومةٌ من المُتعة

تشهدُ جوسلين (52 عاماً)، على صحَّة هذا الوضع:” فقدتُ زوجي منذُ أكثر من سبع سنوات وأشعرُ بأنَّ ذِكراه بالإضافة إلى مُحيطي قد أقفلا الطريق أمامي. اجتماعيّاً، تُوجّه إليَّ الدعوات بشكلٍ أقلّ لأنّني من دون شريك. وللمُفارقة، أُلامُ على كلِّ تقاربٍ وثيق مع رجل، كأنَّ كينونتي كأرملة يُلغي الجانب الحقيقيّ من كوني إمرأة. منذُ ذلك الحين، أصبحَ إدراكي لوضعي مُزعجاً، كما لو أنّني مَمنوعة من الحياة الجنسيّة. مع ذلك، فإنّ دورتي الشهرية لا تزال على حالها، وأُلبّي شروط المرأة الخَصبة القادرة على إقامة علاقات جنسيّة. ولكن تكوَّن عندي الشعور أنَّ ما من أحد يلتفتُ إليّ، وأنَّ الرجال يَتجاهلونني. ردّةُ فعل المُجتمع تجعلُني ثائرة، فهذه النظرة المَليئة بالأحكام التي تُثقلني وتدفعني للعزلة، وقد توصلتُ إلى قناعةٍ بعدم الرغبة في الإختلاط. تخطّيتُ الحِرمان، لكنْ كلَّ يوم أفقدُ ريشة من جوانحي. هذه الإستحالة التامة بأن أقيمَ علاقاتٍ جنسيّة إنعكست مَرارةً وصُعوبةً في التواصل. لا أجرؤ على التواجد مع أشخاص من الجنس الذي يُعجبني. كما لو أنّني في حلقة مُفرغة تدفعني إلى الشرك. أخافُ من ارتباطٍ جنسيّ جديدٍ وهذا يُبطىء جهودي للقاءِ أحدهم. هذا الشعور يُجرّدني من قيمتي ويَملأني بالحزنِ والشعور بالظلم. حتى تكوَّن عندي الإنطباع أنّني لم أعد قادرة على إقامةِ علاقةٍ جنسيّة. لم أعدْ أعرف كيف أتخطَّى وضعي. فجأةً تختفي رغبتي في كلّ ذلك”.

لا يغيبُ عن بالنا أنه بقدرِ ما نقلّل من علاقتنا الجنسيّة، بقدرِ ما تخفّ رغبتُنا بها. بعض النساء، كـ جوسلين وكاتيا، يخشيْن من عدم معرفتهنَّ كيف يتصرفنَّ، ويقتنعنَ بأنَّ مَهارتهنَّ كعاشقاتٍ قد فُقدت نهائيّاً. هذا الإعتقاد يَبرزُ كعائقٍ حقيقيّ أمامهنّ. الرغبة الجنسيّة تَخبُو، ويتكوَّن عندنا الإنطباع أنَّنا لم نعد قادرين على إسترجاعها. على المستوى النفسيّ، تَنمو فينا سُرعة الانفعال والتأثُر، فتجعل الالتقاء بآخرين أكثر صعوبة. وأمّا على المستوى الجسديّ، فإنّ فقدان الرغبة يَنعكسُ على القدرة ويُسبّب الألم عند الإيلاج. هكذا يقودُ الحرمان الجنسيّ إلى عوارضٍ وأوجاعٍ نفسيّة وبدنيّة. وبالتالي، بقدر ما تطول فترة الإمتناع عن مُمارسة الجنس بقدر ما تُصبح “العودة إلى السكَّة” أطول وتَستدعي ضرورة التأنّي.


العلاقة الجنسيّة ليستْ حيَوية وإنّما تُعطي طعماً للحياة، فهي حاجة نفسيَّة أكثر ممَّا هي فيزيولوجيّة. يجبُ العمل دائماً من أجل الحفاظ على الأنا المتكامل، حيث يحتفظُ الجسد بموقعه. وما يُسبّب الأذى هو أن نمنعَ أنفسنا من الحصول على المُتعة. وبِما أنَّ اللاوعي عندنا يَحمي نفسهُ من الآلام المُرتبطة بالحرمان، فإنَّ الجسد بالمُقابل يُخدِّر نفسه ويَسترسلُ في ثباته ببطء إنْ لم نتّخذ الاحتياطات المطلوبة.


التجرّؤ على الانفتاح على الآخرين

أخيراً، يبدو من الصعب وضع لائحة دقيقة عن مَساوىء غياب النشاط الجنسيّ مع الشريك. فبعض الدراسات يؤكّدُ أنَّ الجنس مُفيد للصحة، ولنوعيّة النوم، ولنُمو مُعدّل الذكاء. يجب ألاَّ يغيب عن بالنا أنَّ الحياة الجنسيّة الفُضلى يَعيشُها إثنان: فالإنتشاء الفرديّ يَحملُ الإكتفاء البيولوجيّ عينه الذي يُؤمّنه الإنتشاء مع الشريك. مرّةً أخرى نقول يجبُ التصالح مع الملّذات التي نَبلُغها إنفرادياً.

أمّا على الصعيد النفسيّ، يتركُ الإمتناع عن مُمارسة الجنس تأثيراً يختلف بين إمرأة عازبة وأخرى. فإنْ كان الإستمناء عند بعض النساء يكفي بشكلٍ كامل حاجاتهنَّ الهرمونيّة، فالقدرة على التخاطب مع المُدلّك الرجراج (حتى الأكثر تقدّماً علمياً) مُستحيلة. هل الحلُّ إذاً عند أولِ رجلٍ نلتقي به؟ بالتأكيد لا! الأهمّ أن تشعر النساء بحريّة تَخطّي هذه العقَبة، وأن تكنَّ مُتماهيات مع اختيارهنَّ، من دون الوقوع في هاجس السؤال “ماذا سيقول الآخرون؟”.

الأساس إذاً هو الحفاظ على هذا الرابط مع الجسد والقدرة على الشُعور باللّذة. وهذا لا يُمكن بلوغه إلاَّ حين نُجنّب جسدنا الامتناع عن مُمارسة الجنس حتّى إذا حلَّ الوقت المناسب نكون مُستعدين لمُمارسة الجنس. فلكون المُمتنعات عن مُمارسة الجنس لم يحجبنَّ أجسادهنَّ عن الإهتمام، فإنهنَّ ينسين الخوف في إستعادة الرغبة. نعودُ إلى الجنس عند أوّل لقاء، وإلى الجنس عن طريق الحبّ. أليست هذه قصّة “الجميلة النائمة”: الحياة تُستعاد بفضل الحبّ.


وِفق دراسةٍ أجريت في تونس (غانييه أديل، نساء تونسيّات: عدم المساواة أمام زواج جديد، 2009)، تُثير الأرامل أسباب عدم الزواج من جديد كما الآتي:

  • الإخلاص لذكرى الزوج 50%
  • الاهتمام بالأطفال 75%
  • شخص غريب 100%
  • رفض المُجتمع 50%
  • تربية الأطفال في حضن عائلة الوالد 12,50%
  • الوضع والعمر 12,50%
  • الاحتفاظ بإرث الأولاد 12,50%
  • الخوف من الفشل والمشاكل مع الأولاد 50%

أمّا المطلّقات فيُثرنَ أسباب عدم الزواج من جديد على النحو الآتي:

  • الخشية من تجربةٍ جديدة 70%
  • الاهتمام بالأولاد 70%
  • الأولاد يرفضون 20%
  • الرفض لوجود زوج الأمّ 10%
  • غياب الرغبة 10%
  • فقدان الأولاد 10%
  • عدم توفّر طالب زواج 30%

 

ناديا التي التقت بزوجها الثاني منذ ثمانية عشر شهراً، وبعد ست سنوات من الانقطاع تقول: “مرَّت سنوات عديدة وأنا أهتمُ بنفسي، رافضةً المُساومة على إقامة علاقة جنسيّة لا يُكلّلها الحبّ، مُقنعةٌ نفسي أنّني لا أزال مُغرمة بزوجي الراحل. حتّى اليوم الذي التقيتُ فيه زوجي الثاني حَصَلت الأمور ببساطة. لقد تفهّمتُ هذه اللّحظة كما تفهّمتها حين كنتُ أكثر شباباً. ولكنّني كنتُ مخطئة: لقد استعاد جسدي بشكلٍ طبيعيّ ردّات الفعل التي لم أنساها أبداً. وقد استطاعت رغبتي أن تَمحي الخوف”.

أمّا سلمى (39 عاماً)، فتقول: “لم أنتظر الزواج الثاني لأسترجع حياتي الجنسيّة، لا بل لأكون أكثر دقة، في حالتي، لأكتشف الجنس من جديد. لقد زوجوني من رجلٍ يكبُرني بخمسة عشرة عاماً. ومنذُ وفاته، تتجسّس عليّ سِلْفتي، كما هو الحال في أسوأ أنواع التحقيقات الجنائيّة، لأنّها تطمعُ بالميراث. حتّى أنّها كانت تُرافقني عند طبيبي النسائيّ. هذا لم يمنعني بعد أربع سنوات من الإمتناع عن مُمارسة الجنس من أن يكون لي عشيقاً. لا أنوي أن أتزوّج مجدّداً، فلديّ ولدان يملآن حياتي ويُقدِّران استقلاليّتي. أنا لا أزال يافعة، وغير مُستعدّة للتنازل عن حقّي في الحياة والإستمتاع بالجنس. فزوجي الراحل لم يُقدّم لي أيّ متعة، بينما عشيقي جعل منّي إمرأة جذّابة جنسيّاً. هذا الإرتباط لا يُشعرني بعقدة الذَنب. على العكس من ذلك، لم أكن أبداً مُفعمة بالأمل والتفاؤل في السابق”.